سواء أكنت تطمح إلى العمل في إحدى الشركات متعددة الجنسيات أو لديك بالفعل وظيفة في واحدة من هذه الشركات، يجب أن تكون لديك مجموعة معينة من المهارات التي لا يمكن الاستغناء عنها لكي تجذب انتباه المديرين لتوظيفك وترقيتك.
ما يعرفه معظم الناس عن كيفية الحصول على وظائف بأجور مرتفعة في الشركات متعددة الجنسيات هو أنك يجب أن تكون واحد من الأفضل والأكثر نجاحاً في مجالك وربما يجب عليك أن تتعلم القليل من اللغة الإنجليزية. في الواقع أن هذه النوعية من الشركات تأخذ عدة عوامل أخرى في الحسبان أثناء عملية التوظيف، وقد يتسبب غياب واحد من تلك العوامل في عدم حصولك على عمل في شركة أحلامك حتى لو كنت الأفضل في مجالك على الإطلاق من ناحية المهارات التقنية، وقد يتسبب امتلاكك لتلك العوامل بحصولك على الوظيفة حتى لو كان مستواك التقني متوسط.
يغفل العديد من الناس واحد من أهم هذه العوامل التي تعتمد عليها عملية التوظيف في الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، وهو الذكاء الثقافي CQ – Cultural Intelligence.
على عكس ما قد يوحي به الاسم، فإن الذكاء الثقافي لا علاقة له بمعلوماتك العامة أو تفضيلك للقراءة من عدمه. الذكاء الثقافي يعني القدرة على عبور الاختلافات الثقافية والعيش بتناغم في ثقافات مختلفة تماما عن ثقافتك الأصلية التي نشأت فيها.
في عالم تحكمه العولمة والشركات متعددة الجنسيات، يعد الذكاء الثقافي من أهم العوامل التي يجب توافرها في الموظفين وطرق الإدارة معاً. في هذا المقال، سوف أرشدك إلى كل ما تحتاج معرفته عن الذكاء الثقافي (CQ) وكيف يمكنك اكتسابه لتتمكن من النمو والاندماج داخل أية ثقافة.
أزمة التنميط وعلاقتها بالصدمات الثقافية
يعد التنميط من أهم المفاهيم التي تحاول الصوابية السياسية (Political correctness) تصحيحها في جميع الثقافات حالياً. على الرغم من ذلك، يبدو للبعض أنه من المستحيل إزالة عملية التنميط بالكامل من أفكار البشر حيث ثبت أنه، في بعض الأحيان، تكون بعض الأنماط منطبقة على مجموعات من البشر تتشارك نفس الثقافة.
على سبيل المثال، من المعروف عن الثقافة الإيطالية أن الشعب الإيطالي يتحدث بصوت مرتفع مع استخدام الإشارات بالأيدي بكثرة. وبرغم أن الإيطاليين بأنفسهم يعترفون بوجود هذا النمط في طريقتهم للتواصل، وبرغم أن استخدام إشارات الأيدي جزء هام لمن يريد أن يتحدث الإيطالية كأهلها، فمن البديهي والمنطقي أن يوجد الكثير من الإيطاليين ممن لا تنطبق عليهم هذه الأوصاف.
لا يمكننا أن ننكر أن الاختلافات الثقافة ينتج عنها مجموعة من الصفات المتشابهة بين أفراد المجتمعات والثقافات الواحدة. ولهذا السبب، حين ينتقل الإنسان من ثقافته الأم ليختبر ثقافة مختلفة تماماً عما اعتاد عليه غالباً ما يواجه ما يطلق عليه الصدمة الثقافية أو الصدمة الحضارية.
الصدمة الثقافية، على عكس ما قد يوحي به الإسم، هي عملية تمر بعدة مراحل. يمكن التفكير في مراحل الصدمة الثقافية كمراحل الحزن بدون عوامل الشعور بالخسارة أو انكسار القلب. يمر الشخص الذي يختبر مراحل الحزن بمراحل الصدمة، الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، القبول، ثم التعافي. كذلك في مراحل عملية الصدمة الثقافية يمر الإنسان بعدة مراحل سنناقشها خلال الجزء التالي من هذا المقال.
مراحل الصدمة الثقافية (الصدمة الحضارية)
كما سبق وأوضحت، يمر كل البشر بعملية الصدمة الثقافية حين ينتقلون من ثقافتهم التي ألفوها إلى ثقافة غريبة عنهم. ولكن تختلف حدة اختبار هذه العملية من شخص إلى آخر بناءاً على إختلاف مستويات الذكاء الثقافي (CQ). وفي كل الأحوال، هناك أربعة مراحل أساسية للصدمة الثقافية.
- مرحلة شهر العسل
تتمثل هذه المرحلة في فترة بداية الانتقال للثقافة الجديدة حيث يشعر المرء بالإثارة والحماس لترك ما اعتاده لتجربة بيئة جديدة بمعطيات مختلفة.
- مرحلة الشعور بالإحباط
في هذه المرحلة، يبدأ الشخص بالشعور ببعض الانزعاج – وفي حالات معينة الاكتئاب- جراء التغييرات التي قد لا تشعره بالارتياح في مكانه الجديد. ويقوم الجميع باختبار هذه المشاعر سواء أكنت ابن قرية صغيرة هادئة تزعجك المدينة الصاخبة أو قمت بالسفر آلاف الأميال إلى حضارة جديدة تماماً يتحدث أهلها لغة غريبة عنك وتشعر بالغربة من أبسط عاداتهم الأجنبية بالنسبة لك. تعد هذه المرحلة من أكبر التحديات التي ستواجهها أثناء مرورك بمراحل الصدمة الثقافية حيث لا يستطيع الكثيرين تخطيها.
- مرحلة التأقلم
في هذه المرحلة، يبدأ الإنسان بتفهم الثقافة الجديدة التي أتى إليها ويحاول التعرف على عادات هذه الثقافة من منظور أهلها. سوف تحدد هذه المرحلة قدرتك على النجاح، أو الفشل، في عالمك الجديد.إذا لم تتمكن من تخطي مرحلة الشعور بالإحباط، فلن تستطيع التأقلم على وضعك الجديد ولن تحقق هدفك من التجربة أياً كان
- مرحلة القبول
في هذه المرحلة، سوف تتخطى قدرتك على مجرد تفهم الثقافة الجديدة وعادات أهلها إلى قبولها بالكامل. بمجرد وصولك لمرحلة القبول، يمكنك الآن أن تمثل دور هام في حياة كل من يمر بمراحل الصدمة الثقافية حيث ستتمكن من مساعدتهم على الوصول إلى ذات المرحلة.
قد يصل بعض الناس إلى ما هو أبعد من قبول الثقافة الجديدة ويقومون بتبنيها بالكامل عند شعورهم بالاندماج وبأنهم ينتمون إلى هذه الثقافة الجديدة. في مثل هذه الحالات نرى أشخاص مثل برونو ميتسو، مدرب منتخب السنغال فرنسي الأصل الذي اعتنق الثقافة الإفريقية بالكامل وتزوج من امرأة سينغالية وأنجب منها، وحين توفي، طلب أن يتم دفنه في أراضي السنغال، الوطن الذي اختاره بعد ان نجح ذكاؤه الثقافي أن يجعله يندمج في مجتمع الجديد تماماً ليصبح فرد منه.
من الجدير بالذكر أيضاً أن عملية الصدمة الثقافية قد يمر بها شخص مغترب عند الرجوع إلى وطنه بعد أن قضى عقود في بلد أجنبي حيث يصبح على هذا الشخص أن يعيد تعلم ثقافته الأم وتقبل عادات أهل بلده، وفي بعض الحالات حتى تعلم اللغة من جديد.
الخلطة السرية: كيف تطور وتستخدم الذكاء الثقافي لتحقيق النجاح في عالم الأعمال؟
قد يبدو تطوير ذكائك الثقافي مهمة صعبة للوهلة الأولى إذا كنت لا تعرف من أين تبدأ وأين المناطق في عقلك يجب عليك العمل عليها وأية جوانب من شخصيتك يجب تعديلها. دعني أطمئنك إن تطوير ذكائك الثقافي يمكنه أن يكون عملية في غاية السهولة إذا ما تعلمت الخلطة السرية للذكاء الثقافي!
في الجزء التالي من هذا المقال سوف أشرح لك النواحي الثلاثة الأساسية التي تحتاج للعمل عليها في شخصيتك حتى تتمكن من تنمية ذكائك الثقافي وتتمكن من التأقلم على أية ثقافة جديدة سواء لأغراض العمل أو في علاقاتك الشخصية.
الجوانب الإدراكية
يمكن تلخيص الجانب الإدراكي من الذكاء الثقافي في قدرتك على التعلم والشعور بالفضول تجاه الثقافة الجديدة. على سبيل المثال، يمكنك أن تقوم بالبحث بشكل متعمق عن معلومات محددة عن تلك الثقافة فيما يخص العادات والتقاليد والأعياد القومية والظروف الجوية وحتى المطبخ حتى تستطيع فهم أهمية كل هذه الجوانب في حياة سكان هذه الدولة. معرفة القليل عن تاريخ المنطقة أيضاً سيمكنك من فهم من أين أتت وكيف تطورت تلك العادات والتقاليد التي قد تجدها غريبة في البداية.
بمجرد أن تتعلم بعض أو كل هذه الجوانب، يمكنك أن تبدأ في وضع خطة أو استراتيجية لكيفية تعاملك وتأقلمك على هذه الثقافة الجديدة.
الجوانب السلوكية
يعد تطوير الجوانب السلوكية من الذكاء الثقافي أحد أهم الأعمدة في تطوير هذا النوع من الذكاء. يمكنك أن تخسر وظيفة أو تفشل في مقابلة عمل بسبب عدم إدراكك للجانب السلوكي من الذكاء الثقافي مما يجعلك تقوم بتصرف يبدو لك عادي أو طبيعي بينما هو يعتبر مهين للثقافة الجديدة التي تتعامل معها.
تقليد التصرفات المقبولة في الثقافة التي تحاول الدخول إليها وتبني عادات وتقاليد هذه الثقافة سوف يساعدك كثيراً على أن يتم تقبلك في المجتمع المنتمي لهذه الثقافة.
في أحد المواقف، كنت أعمل في بلد يعتبر أهله وقت راحة الغداء مقدس للجميع حيث يستطيع الأفراد أن يتوقفوا عن التفكير في العمل لأخذ فترة راحة والاستمتاع بالغداء والصحبة في منطقة جميلة. بينما يعتقد البعض أن الاستمرار بالعمل أثناء وقت الغداء قد يجعلك تظهر بمظهر المجتهد، في مثل هذه الثقافة، يعد هذا التصرف غريب ومرفوض ويجعل المرء يظهر بصورة منطوية أو حتى عدوانية.
الجوانب التحفيزية
يجب عليك دوماً ان تجد عوامل تحفزك على تعلم الثقافة الجديدة والتأقلم عليها. لا يتمتع الجميع بالحظ الذي يجعلهم يختبرون ثقافات جديدة تثير اهتمامهم وتجعلهم متحمسين لمعرفة المزيد عنها. بالتالي، قد تواجه بعض العادات أو التصرفات من الثقافات الأجنبية التي قد تشعرك بالإحباط أو حتى تقوم باستفزازك. على سبيل المثال، يعد الناس في الشرق الأوسط مزعجين لاعتيادهم على الأصوات العالية والضوضاء بالنسبة لشخص قادم من الثقافة الاسكندنافية التي تتميز بالهدوء أو حتى البرود. هذه الاختلافات الكبيرة في الطباع قد تمثل عائق في سبيل التواصل بين شخصين من هاتين الثقافتين إذا حاولا العمل معاً في شركة واحدة.
لهذا، يجب عليك أن تجد دوماً طرق جديدة لتحافظ على حماسك أثناء فترة تعلمك لأية ثقافة جديدة واندماجك فيها.
يمكنك أن تحافظ على حماسك عند اختبار ثقافة جديدة بأن تبقي الهدف الذي أتيت من أجله أمام عينيك. يمكنك أيضاً عمل بعض الصداقات مع أهل هذه الثقافة حتى يساعدوك على تخطي الحواجز الثقافية التي قد تحبطك.
وأخيراً يجب عليك أن تجد ما تحبه في هذه الثقافة الجديدة حتى تتمكن من التعلم والاندماج أكثر من خلال ما تحب. فعلى سبيل المثال، يمكنك استخدام أشياء لطيفة مثل الروح المرحة للأمريكيين، ثقافة الـ K-pop لدى الكوريين، الحياة البرية في أستراليا، أو المطبخ الهندي حتى تنغمس في هذه الثقافات.
بمجرد أن تجد الشيء الذي يجذبك في ثقافة معينة، سيكون هذا الشيء بمثابة البوابة التي ستعبر منها لتتقبل هذه الثقافة ولتجعل أهلها يتقبلوك أيضاً. بهذا، ستحقق مستوى مذهل من الذكاء الثقافي(CQ).
إذا لم تستطع العمل على واحد أو أكثر من هذه الجوانب للذكاء الثقافي، ستكون النتيجة شعور بعدم الارتياح أو حتى عدم الثقة بينك وبين المجتمع الجديد مما قد ينتج عنه فشل مشروعك في هذا البلد.
على الناحية الأخرى، إذا تمكنت من السيطرة على هذه الجوانب الثلاث سوف تكون قد حققت مستوى ذكاء ثقافي عالٍ بحيث يمكنك من التأقلم والاندماج في أية ثقافة جديدة قد تقابلك في المستقبل مهما كانت غريبة عنك. بهذه الطريقة ستتخطى نتيجة عملك الجاد مجرد حصولك على وظيفة في شركة عملاقة متعددة الجنسيات أو مشروع ناجح، بل ستكون قد خضت تجربة إنسانية ثرية ستغير حياتك وقد تخرج منها بصداقات تدوم لباقي حياتك.
قيمة الذكاء الثقافي (CQ) في حياتك المهنية
أعلم أن العمل على تطوير الذكاء الثقافي يبدو مهمة شاقة خاصة وأن الكثير من هذا العمل هو عمل داخلي وتطوير للذات لتقبل الآخر. بينما قد تفكر الآن أنك لديك وظيفة رائعة في إحدى الشركات الكبرى ولا تحتاج لبذل كل ذلك الجهد، دعني أنبهك أن الذكاء الثقافي قد يؤثر على فرصك المستقبلية في الحصول على ترقيات وتسلق سلم الإدارة، أو قد يتسبب حتى في حصولك على أجر أقل من شخص في نفس مستواك المهني ولكن بمستوى ذكاء ثقافي أعلى.
في بداية حياتي المهنية، تعرضت لموقفين قاما بتعليمي بالطريقة الصعبة أهمية الذكاء الثقافي في عالم الأعمال.
الموقف الأول هو أنني وزميل لي كان لدينا اجتماع مع عميل هندي الجنسية. خلال الاجتماع واجهت أنا وزميلي صعوبة في فهم ما يقوله العميل حيث كان يقول كلمة “Veb” ولم نستطيع فهم ما يقصده، لنكتشف أنه كان يقصد كلمة Web حين قام بكتابتها على السبورة بعد أن أحبطه عدم قدرتنا على فهمه. لقد نسينا أن اللهجة الهندية للغة الإنجليزية تنطق حرف الـ V بدلاً من ال W !
في موقف آخر، قمت بتحضير عرض توضيحي مفصل من أجل اجتماع مع عميل آخر، وكلما حاولت البدء في العرض، ينهض العميل من مكانه ليأتي إلي ويغلق شاشة حاسوبي المحمول! اتضح فيما بعد أنه في ثقافة هذا العميل لا يوجد لدى الناس وقت لتضيعه على عروض توضيحية طويلة وأنه كان يجب عليّ تجهيز عرض قصير لشرح فكرتي لتوفير الوقت على الجميع. فيما بعد، تعلمت أن هذا الموقف يعد فشل في مقياس معين من مقاييس الذكاء الثقافي يسمى “التطبيق مقابل المبدأ” وسأقوم بشرحه في قسم لاحق من هذا المقال.
لقد علمتني هذه المواقف مدى أهمية الذكاء الثقافي في عالم الأعمال. لذا، عندما قمت بالعمل على مشروع آخر بعد عدة سنوات، تطلب المشروع جمع البيانات من سائقي الشاحنات كنت قد تعلمت درسي. قبل البدء في جمع البيانات من سائقي الشاحنات الذين ينظرون إلى فريقي كمجموعة من “الأساتذة” الذين يمكن خداعهم بسهولة، قمت بتعلم كل الاختلافات الثقافية بين أفراد فريقي وبين ثقافة السائقين حتى نتمكن من التواصل معهم بأفضل طريقة ممكنة للحصول على معلومات دقيقة. قمت وفريقي بتغيير مظهرنا ليتناسب مع البيئة المحيطة وتعلمنا الطريقة المناسبة للتواصل بنجاح مع السائقين وأدى ذلك إلى حصولنا على البيانات التي احتجنا إليها من أجل مشروعنا.
مروري بهذه التجارب التي علمتني تطوير ذكائي الثقافي ساعدني في واحد من أصعب المشروعات التي عملت عليها في الماضي حيث توجب عليّ عمل عرض توضيحي للمدير العام ونائب مدير الشركة التي يعمل بها هؤلاء السائقين ولم أكن أعلم وقتها مناصب هؤلاء الأشخاص ولكن ساعدني الذكاء الثقافي على إلتقاط الإشارات والتصرف بالشكل الملائم طبقاً لموقعهم في الشركة. بفضل الذكاء الثقافي، تمكننا من إنقاذ المشروع والتوسع فيه أيضاً.
فهم وقياس الذكاء الثقافي في المؤسسات
في هذا القسم من المقال سننتقل إلى الجانب الآخر ونبدأ في النظر إلى أهمية الذكاء الثقافي وكيفية قياسه داخل الشركات ومعرفة الدور الذي يلعبه هذا النوع من الذكاء في بقاء ونجاح الشركات في السوق العالمي.
قياس مفهوم ومستوى الذكاء الثقافي داخل شركتك بإمكانه المساعدة على التخلص من الكثير من العقبات.
هناك عدة عوامل من الممكن دراستها لقياس مستوى الذكاء الثقافي في بيئة العمل. قد تساعدك هذه المقاييس أيضاً في المرة التالية التي يتعين عليك فيها عرض فكرة أو مشروع على عميل او مستثمر من ثقافة مختلفة. كما قد تساعدك هذه المقاييس على تحسين وضعك الوظيفي الحالي إذا كنت تعمل في بيئة متعددة الجنسيات، كما قد تساعدك على تحسين علاقتك بعائلة الشريك إذا كنت قد ارتبطت بشخص من ثقافة مختلفة!
مقاييس الذكاء الثقافي – Cultural Intelligence Measurements
١- المسافات بين القوى (توزيع السلطة) – Power Distance
قياس توزيع السلطة في شركة ما هام لمعرفة ما إذا كانت المنظومة تسمح بنفس الفرصة لجميع أفرادها أم لا. لقياس هذا المفهوم داخل شركة، يمكننا النظر إلى إذا ما كان جميع أفراد الفريق لديهم نفس الفرصة أو نفس السلطة في عملية اتخاذ القرار. إذا كان الجميع متساويين فسنكون أمام منظومة ذات مسافات صغيرة بين القوى وبتوزيع سلطة متساوي. على الجانب الآخر، الشركات التي تتبع هيكل صارم في عملية اتخاذ القرار تتمتع بمسافات كبيرة بين القوى.
لا يمكننا القول بأنه من الأفضل أن تكون المسافة بين القوى في الشركة صغيرة أو كبيرة، ولكن معرفة طريقة توزيع السلطة والمسافة بين القوى داخل الشركة في غاية الأهمية حتى تتمكن من تطوير مستوى الذكاء الثقافي داخل شركتك.
٢- تجنب عدم التأكد – Uncertainty Avoidance
أسهل طريقة لشرح مبدأ تجنب عدم التأكد هي المقارنة بين طريقتي ال agile وال waterfall في تطوير البرمجيات. ففي طريقة ال waterfall تكون مرحلة التخطيط هي الأطول وتهدف إلى تغطية جميع الإحتمالات قبل البدء في عملية التطوير نفسها. لهذا يمكننا القول بأن هذا الطريقة لديها معدل عالٍ لتجنب عدم تأكد. بمعنى آخر، فإن هذه الطريقة تهدف إلى تجنب مقابلة أي نوع من أنواع عدم الوضوح أثناء عملية التطوير.
بناءاً على ذلك، فإن التعامل مع أشخاص من ثقافات ذات معدلات تجنب عدم تأكد عالية يفضلون وضع خطط مفصلة لكل خطوة قبل البدء بالعمل الفعلي.
الثقافات ذات المعدل المنخفض لتجنب عدم التأكد يمكن تشبيهها بطريقة ال agile. الأشخاص الذين ينتمون لهذه الثقافات يفضلون البدء في العمل مباشرة مع استمرار التعديل بناءاً على الظروف التي قد تظهر فيما بعد. هذه الثقافات نجدها منتشرة بكثرة في شركات تطوير البرمجيات والمجتمعات الغربية مثل البلدان الأوروبية.
٣- أحادية التركيز مقابل تعددية التركيز – Monochronic Vs. Polychronic
في الثقافات أحادية التركيز، يكون عامل الوقت هو الأكثر أهمية في نظر الإدارة. فمثلاً حين يتم تحديد موعد لاجتماع في الثانية بعد الظهر، سوف تكون مشكلة كبيرة حين يدخل شخص ما إلى الإجتماع في الثانية وعشر دقائق! تعد مواعيد التسليم في هذه الثقافات مقدسة ولا يمكن التأخر عنها. يجب تسليم العمل في الموعد المحدد بغض النظر عن جودته.
في الثقافات متعددة التركيز تكون إدارة الوقت مرنة أكثر كما تتوافر القدرة على تعدد المهام للشخص الواحد، فمثلاً يمكن التأخر بعض الوقت على موعد اجتماع أو موعد تسليم بشرط أن تكون الجودة في المستوى المطلوب.
بالنسبة للموظفين، فبإمكانهم التعرف على هذا المقياس داخل الشركات مبكراً منذ بدء مقابلات العمل قبل التوظيف الفعلي. فقد يلاحظ الشخص مثلا أن المقابلة لم تبدأ في الموعد المحدد تماماً ولكن تأخرت عشر دقائق أو ربع ساعة على سبيل المثال مما يشير إلى شركة ذات ثقافة متعددة التركيز.
تميز تعددية التركيز العديد من الشركات ذات الديناميكية السريعة والتي تحتاج إلى فريق عمل متنبه لملاحقة التغيرات.
من خبرتي، فقد وجدت أن ثقافة تعددية التركيز موجودة بشدة في شركات دبي ومنطقة الخليج بشكل عام. في هذه الأجواء، لا توجد مشكلة أن يحضر الفرد إلى اجتماع متأخراً او أن يقوم بتسليم عمله بعد الموعد المحدد طالما قام هذا الشخص بإنجاز عمله على أكمل وجه. بمعنى آخر، تتسامح هذه الثقافات مع التأخر على المواعيد بشرط أن تكون لدى العاملين فيها معرفة واضحة ورؤية محددة لما يقومون بفعله.
٤- المفهوم مقابل التطبيق – Principle Vs. Application
في الثقافات التي تعطي الأولوية للتطبيق يكون التركيز على نتيجة مجهود الفريق مع عدم التركيز مطلقاً على التفاصيل أو الكيفية التي تم إنجاز العمل عن طريقها. يمكن تلخيص هذا النوع من الثقافات بالعبارة التي سمعتها مرة من أحد المديرين: “لا أهتم بالقصص، قم بالوصول للهدف مباشرةً”.
الثقافات التي تهتم بالمبدأ، على الجانب الآخر، تهتم بالقصص. يهتم المديرين في هذه الثقافات بمعرفة التفاصيل التي مررت بها أثناء إنجازك لعمل ما. على سبيل المثال، يريد هؤلاء المديرون معرفة ما هي العقبات التي واجهتك وما الذي قمت بفعله لتخطي تلك العقبات.
نجد ثقافة المبدأ أولاً منتشرة في الشركات الأوروبية، بينما الشركات الأمريكية تهتم بالتطبيق أولاً.
٥- التفكير المحدد مقابل التفكير الشامل – Specific thinking Vs. Holistic Thinking
في البيئات التي يسيطر عليها التفكير المحدد، يميل الأفراد لفصل المشكلة عن محيطها لإيجاد حل للمشكلة على حدة لضمان نتيجة معينة. في الثقافات التي تميل للتفكير الشامل نجد أن الأفراد والشركات يميلون إلى النظر إلى الصورة الكاملة بكل متغيراتها قبل اتخاذ أية قرارات.
يعد هذا المقياس للذكاء الثقافي في غاية الأهمية حيث يقع الاختلاف بين هاتين الطريقتين على طرفي النقيض ولا توجد أرض محايدة بينهما. إذا كنت تسعى للحصول على وظيفة في إحدى هذه الثقافات، يجب عليك التعرف على هذا المقياس بوضوح ومقابلة متطلبات الشركة فيما يخص هذا العامل.
٦- التركيز على المهام مقابل التركيز على العلاقات – Task-based Vs. Relationship-based
يصنع هذا المقياس كل الفارق في علاقة الشركات ببعضها. نجد أن في الشركات الإفريقية والشرق أوسطية يكون التركيز على العلاقات حيث تختار الشركات أن تعمل مع أشخاص وشركات تم التعامل معها من قبل وتوجد بينهما علاقة سابقة أو أن يتم تقديم الشريك أو الموظف الجديد عن طريق معرفة مشتركة ليكون هناك أساس سابق للثقة في الطرف الجديد وبهذا تقوم هذه الشركات بتقليل نسب الفشل عن طريق العمل مع طرف مضمون مقارنة بالعمل مع طرف جديد مجهول النتائج بالنسبة لها. يمكن أن نجد هذا النموذج أيضاً في عالم المشروعات الناشئة Startups حيث يفضل المستثمرين وضع أموالهم مع صاحب المشروع المعروف بالنسبة لهم، فيضع المستثمر ثقته في صاحب المشروع وليس في المشروع نفسه.
على العكس نجد أن الشركات ذات ثقافة التركيز على المهام تفضل أن تختار الشخص الأنسب للمهمة بغض النظر عن وجود معرفة سابقة. في هذه الثقافات، لا يهم وجود علاقة في الماضي، إنما تتم عملية اتخاذ القرارات بناءاً على متطلبات المهمة فقط.
٧- مساحة التفسير وشرح السياق – High Context Vs. Low Context Communications
يمكن وصف طريقة التواصل ذات مساحات التفسير الضئيلة باختصار بأنها توفر جميع المعلومات المطلوبة بطريقة مفصلة وواضحة تماماً وتجنب أية توصيفات قد تحمل أكثر من معنى بحيث لا يتبقى للموظف مساحة لتفسير متطلبات المهمة وبالتالي تقليل مساحة ارتكاب الأخطاء. داخل هذه الثقافات، من المهم جدا الاستماع بدقة لما يقال حيث أنه يصف المطلوب بوضوح. لا تحاول أن تجد معنى خفي وراء الكلام.
في الثقافات ذات مساحات التفسير الواسعة، على الجانب الآخر، سيتطلب الأمر من شخص أجنبي أو غريب المزيد من الجهد لفهم المطلوب حيث لا يعتمد التفسير على الكلمات فقط، بل أيضاً يجب ملاحظة الموقف ولغة الجسد ونبرة صوت المتحدث.
بالطبع يفضل في بيئة العمل أن تكون هناك مساحة تفسير ضئيلة قدر المستطاع. ولكن إن وجدت نفسك تعمل في شركة تسمح بمساحات أكبر لتفسير محتوى الكلام، عليك أن تهتم بتوثيق كل محادثة وكل اتفاق بشكل واضح ومحدد عن طريق ايميلات رسمية مع الطرف الآخر لتفادي وقوع أية سوء فهم.
٨- المواجهة مقابل تجنب المواجهة – Confrontational Vs. Non Confrontational
الثقافات التي تفضل المواجهة تعد بالطبع هي الأفضل في عالم الأعمال حيث يمكن للجميع قول ما يريدون قوله دون تضييع الوقت في محاولات لطيفة لإيصال المعنى. ولكن يعيب هذا الأسلوب أنه كثيراُ ما يؤثر على مشاعر الأفراد ويقوم بإخراج ردات فعل عاطفية في مواقف يفترض أنها لا تمت للعاطفة بصلة.
يمكن تلخيص أسلوب المواجهة في الإدارة في شكل المدير الذي يكرهه الجميع لأنه يقول الحقيقة دون تجميل ودون مراعاة لمشاعر أحد. بمجرد وصولك لمستوى الذكاء الثقافي المناسب، يمكنك التعامل في بيئة عمل تتميز بأسلوب المواجهة في الإدارة بسهولة حيث تدرك أن أمور العمل ليست شخصية.
أما عن بيئات العمل التي تتبع أسلوب تجنب المواجهة، فقد تكون طريقة التواصل ألطف بكثير، ولكن إذا كان الطرف الآخر غير مدرك لما يقوله المدير، فقد يضيع الكثير من الوقت ويتم ارتكاب الكثير من الأخطاء إلى حين وصول المعنى.
ما أراه جيداً بشأن هذا المقياس تحديداً هو أن العديد من الشركات تقع في المنتصف ويمكن بسهولة إيجاد أرضية مشتركة للتواصل دون الدخول في صراعات لا داعي لها. واجبك فيما يخص هذا المقياس هو أن تستشعر مستوى المواجهة أو تجنب المواجهة التي يفضلها مدرائك أو عملائك بحيث تستطيع التأقلم على التواصل معهم.
خاتمة
الثقافات دائمة التطور والأكيد أن جميع الثقافات تتغير بتغير الوقت والمواقف. لهذا، من الهام أن يكون الإنسان مرناً فيما يخص معتقداته وآرائه عن الثقافات المختلفة التي قد يتعامل معها وأن يحتفظ بعقل منفتح قادر على تقبل الآخر.
تزداد أهمية الذكاء الثقافي كعامل أساسي في عملية التوظيف وتحقيق النجاح في الشركات متعددة الثقافات. بسبب وجود العديد من العوامل التي ينتج عنها اختلافات ثقافية شاسعة فيما يعده كل مجتمع طبيعي أو مقبول، يجب فهم هذه العوامل حتى نتمكن من تطوير الذكاء الثقافي للأفراد والشركات على حد سواء.
إذا كنت مهتماً ببدء العمل على ذكائك الثقافي، يمكنك أخذ الخطوة الأولى وهي معرفة موقعك على سلم الذكاء الثقافي من خلال هذا الاختبار. لا تدع النتيجة أياً كانت تؤثر على قرارك بالعمل على تحسين مستوى ذكائك الثقافي. قم باتباع الخطوات التي ذكرتها في هذا المقال لتتخطى أية عقبات ثقافية قد تقابلها في أية وقت.